المعنى العام الآيات
بياء النداء وهاء التنبيـه ، يبتدئ القرآن خطابه للمؤمنين ، فيخاطبهم بـ : (يا أيّها الّذين آمنـوا ... ) ليلفت الأنظار والقلوب بأدوات النداء ، ومضمون الخطاب المشعر بالاحترام فيتفاعل مع العقول والمشاعر ، ويستنقذ النفوس من الغفلة والخطأ .. في هذه الآيـة ينطلق الأدب الجم ، والتربية العقيدية السامية ; ليعرف الإنسان المسلم حدود التصرّف ، والمبادرة في الأشياء والسبق بها .. إنّه ليس مخوّلاً أن يسبق الله ورسوله في أقواله وأفعاله وأحكامه على الأشياء ، فيتجاوز كتاب الله وسنّة رسول الله وأوامره ، فالله ورسوله أعلم ، وتلك مهمّة رسول الله ، فهو المبلِّغ والقائد وصاحب القرار .. إنّ هذه الآية تريد أن توفر الانضباط السلوكي في الحقلين السياسي والقيادي .. وأن لا ينطلق الفرد بقرار قبل ما تقرِّره القيادة الشرعية ، أو يشيع أفكاراً أو مفاهيم وتحليلات وتفسيرات خاطئة ، أو متعارضة مع الحكم أو القرار أو التوجيه الذي يبلغه أو يصنعه القائد .. فيخلق جوّاً من التوتر والتعارض مع الحكم والقرار والتوجيه المطلوب .. إنّها دعوة إلى الاتباع والطاعة لله ورسوله ، ولوحدة الموقف والحكم والقرار.اتقوا الله .. احذروا مخالفته بالطاعة له.. فهو يسمع مقالتكم ويعلم سرّكم ، وما تحويه نفوسكم ، وما تقصدونه في ما يصدر عنكم .. جاء في تفسير ابن عباس : «إنّ هذه الآية : (يا أيّها الّذين آمنوا لا تُقدِّموا بين يَدَي الله ورسوله ) نزلت في ثلاث نفر من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قتلوا رجلين من بني سليم في صلح رسول الله بغير أمر الله وأمر رسوله فنهاهم الله عزّ وجلّ ... » (16) .* * *ويتواصل توجيه القرآن التربوي وهديه السلوكي، وبيانه لأدب الخطاب مع النبي، فيقول: (يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) .إنّ في هذه الآية والآيات الأخرى إرادة تغيير حضاري وسلوكي في بناء الشخصية ، في الأدب الاجتماعي وأصول التعامل الشفّاف المؤدّب.. إنّ المجتمع الجاهلي مجتمع الجفوة والبداوة ، كان يعكس روحه تلك في التعامل ، ولا يمـيِّز الكثير منهم حين يتحدّث مع الرسول في أدب الخطاب بين النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيره ، فكانوا ينادونه باسمه ، يا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويرفعون أصواتهم فوق صوته ، من غير رعاية لحرمة النبوّة ، ومقام الرسالة والولاية .. فأدّبهم القرآن بهذا الأدب ، ونهاهم عن ذلك كلِّـه ، ودعاهم إلى تعظيم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وتوقيره واحترامه في الخطاب ، كمخاطبته : يا رسول الله، يا نبيّ الله ، يا أبا القاسم، وخفض الأصوات في حضرته ، وعند التحدّث معه .لقد حذّرهم القرآن من أنّ هذا الأسلوب الذي يخاطبون به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبهذه الطريقة الفَجّة الفَظّة سيُبطِلُ أعمالهم وهم لا يشعرون ، أنّ طريقتهم هي السبب في ذلك البطلان .. وينبغي أن نقف أمام هذا التحذير القرآني ، ونلتقط الملاحظة بوعي وتأمّل .. وهي أهمية الطريقة التي يُؤدّى بها الخطاب وعلاقة ذلك بقبول العمل ، وحصول التأثير ، فانّ الخطاب غير المناسب يضيِّع على الإنسان أهدافه وغرضه وأن ما يخالطه من طريقة خاطئة يتسبّب في إبطاله والحرمان من الأجر ..ينبغي للرساليين والمصلحين الاسلاميين أن يستوعبوا هذا التوجيه والارشاد القرآني في أسلوب الخطاب ، فكثيراً ما يتورّط بعضهم في خطأ الخطاب فيضرّ نفسه والقضية ، ويتحمّل مسؤولية الاساءة تلك ..أمّا الذين يخفضون أصواتهم عند الحديث مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإنهم يعرفون للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حرمته ومقامه ، ويتعاملون معه بأدب واحترام .. وذلك الأدب والتعامل ، هو نتيجة طبيعية للإيمان الذي حملته قلوبهم ، وهم يكشفون بهذا التعامل عن حقيقة ما في نفوسهم من إيمان صادق بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومقام النبوّة ، أولئك هم الذين صفت قلوبهم من الشوائب والدنس ، فاسـتحقّوا المغفرة والأجر العظيم .. لقد كان هذا التعامل مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اختباراً وامتحاناً لإيمانهم . جاء في روايات المفسِّرين أنّ الذي رفع صوته فوق صوت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونزلت فيه هذه الآية ، هو ثابت بن قيس بن شماس ، ثم تاب بعد ذلك .* * *)إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) .وفي هذه الآيـة يتحدّث عن صورة أخرى من صور التخلّف في أدب الخطاب ، وفجاجة الأسلوب ، والطريقة الخالية من الأدب وحسن الذوق في التعامل مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .ذكر المفسِّرون في سبب نزول هذه الآية : انّ جماعة من بني تميم من الأعراب ، وكانوا أجلافاً جفاة ، جاؤوا إلى المدينة ، وأرادوا التحدّث مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمر ، فوقفوا حول بيت النبيّ وراحوا يرفعون أصواتهم بالنداء وهم يطوفون من وراء الحجرات .. يا محمّد اخرج إلينا ، لقد استهجن القرآن هذه الطريقة ، ووصف القائمين بها بأنهم قوم لا يعقلون ، لا يفهمون مقام النبوّة .. فأدّبهم بالأدب الاجتماعي المناسب لمقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .. كان عليهم أن يصبروا وينتظروا خروج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيكلِّموه ، ولو فعلوا ذلك لكان خيراً لهم .. ثم يختم القرآن هذا البيان بقوله : (والله غفور رحيم ) .إنّ باب التوبة والمغفرة ما زال مفتوحاً لهذا الإنسان المخطئ المسيء ليستغفر ويتوب .(يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) .ذكر الواقدي في كتاب المغازي انّ رسول الله بعث الوليد بن عبدالله بن أبي معيط ، بعثه إلى بني المصطلق لجمع صدقاتهم، فلمّا دنا منهم خرج منهم عشرون رجلاً لاستقباله ، وهم فرحون به، فلمّا رآهم كذلك رجع إلى المدينة، وقال للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): انّ بني المصطلق قد امتنعوا عن اداء الصدقات وهمّوا بقتله .فغضب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك وهمّ أن يغزوهم .. فجاء وفد من بني المصطلق ، فشرح لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موقف الوليد منهم ، وانّه غير صادق فيما ادّعى ، فأنزل الله هذه الآية تكذب الوليد ، ووصفته بأنه فاسق ..ويذكر بعض المفسِّرين انّ عـداوةً كانت في الجاهلية بين قبيلة الوليد ، وبين بني المصطلق.. وفي هذه الآية يثبِّت القرآن قاعدة علمية وشرعية لتقبّل الأخبار والروايات .. وبهذه الآية استدلّ فريق من الفقهاء على حجِّية خبر الآحاد الثقات .. ذلك لأنّ الآية وفق تفسير هذه النظرية تدعو إلى عدم قبول خبر الفاسق إلاّ بعد التبيّن ، والتأكّد من صحّته، وحسب مفهوم الآية ، فانّ الإنسان المؤمن والموثق تُقبَل روايته وخبره ، وإنْ كان واحداً ، فانّ المنهيّ عن قبوله هو خبر الفاسق .. في حين استدلّ آخرون بهذه الآية على عدم قبول خبر الآحاد .. وقالوا انّ خبر الآحاد لا يفيد العلم ولا يوجب العمل ، إلاّ إذا احتفّ بقرائن ترقى بمفاده إلى مستوى العلم أو الاطمئنان .. ذلك لأنّ هذه الآية تأمر بالتوقّف عن قبول خبر من يحتمل كذبه ..ويوضِّح القرآن انّ سبب التوقّف عن قبول خبر الفاسق ووجوب (التبيّن) والتثبّت من صحّته هو مخافة أن يكون خبره كذباً، والمتلقي يعتبره صدقاً ، بسبب الجهالة بالحقيقة ، فيتخذ الموقف والأحكام الخاطئة ، ويصيب الآخرين بضرر وعدوان وأذى ، وعندها يندم على ما فعل ، وارتكب من خطأ بسبب تصديق الأنباء والأخبار الكاذبة ..* * *)واعلموا انّ فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم ولكنّ الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلاً من الله ونعمة والله عليم حكيم ) .ويتواصل خطاب القرآن للمؤمنين موضحاً لهم القيمة الكبرى لوجود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم ، فانّه المسـدّد بالوحي والمبلِّغ عن الله ، فانّ الله يطلعه على أخبارهم ، وما حوت النفوس من نفاق وكذب وتآمر ضدّ شخصه والدعوة .. والآية توضِّح أيضاً انّ القرار والأمر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهو العالم بالشريعة والمسدّد من الله بتشخيص المصالح .. إنّ البعض منكم يقدِّم بين يدي الله أو يريد تحقيق رأيه ، وإرادته القاصرة أو يحاول الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولو يطيعكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في كثير من الأمور وينفِّذ إرادتكم لأصابتكم الشدّة والمشقّة والأذى .ثم يخاطب المؤمنين ويبيِّن لهم فضل الله ونعمه عليهم ولطفه بهم .. أن يسّر لهم سبل الطاعة ووفر الأجواء النفسية في تحبيب الإيمان في النفوس وتزيينه إليهم ، وهو الذي وهبهم القدرة على تمييز الإيمان من الكفر ، والفسوق والعصيان .. فكرهوا ذلك الاتجاه السيء الشرير ، وأقبلوا على الطاعة والإيمان .. يؤيِّد هذا المعنى قوله تعالى : (بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان ) .إنّ الذين شخصوا عن وعي ومعرفة ، ورسخ الإيمان في قلوبهم فتفاعلت معه مشاعر الحبّ والاندماج الوجداني ، فغدا جزءاً من أرواحهم ومشاعرهم ، وليس مجرّد قناعات عقلية .. ذلك لأنّ السلوك ، كما يقوده العقل تغذيه العاطفة .. إنّ الذين ترسّخ الإيمان في نفوسهم ، ورأوه حسناً وزيناً ، أولئك هم أصحاب العقل والرشد والوعي .. إنّ الله عليم حكيم .. قد علم حقيقة النفوس المؤمنة ، فحبّب إليها الإيمان ، وزيّنه لدى المؤمنين .. انّه حكيم يضع الأشياء في مواضعها ..* * *)وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا انّ الله يحبّ المقسطين ، إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلّكم تُرحَمون ) .وفي هاتين الآيتين يتحدّث القرآن عن المشاكل التي تحدث في المجتمع الإسلامي .. تحدث بين المؤمنين من مشاكل الخلاف والنزاع والتقاتل ، ويحدِّد مبادئ لحل المشاكل وهي :الصلح أوّلاً ، شريطة أن يقوم التحكيم والمصالحة على أساس الحق والعدل والقسط ، وإنصاف صاحب الحق، لئلاّ يضيع حقه، فقد جاء الإسلام لإقامة العدل، وحماية الحقوق .وثانياً : الوقوف بحزم وقوة ضدّ الفئة التي تبغي وتعتدي وتواصل العدوان ، ولا ترضى بالصلح ، وحل المشكلة وفق قواعد القسط والعدل، ومقاتلتها حتى تتراجع عن عدوانها ، وتلتزم بأوامر الله سبحانه في ترك العدوان على الآخرين ; لإقرار الأمن والسلام ، وحماية الحقوق في المجتمع ، والانتصار للمظلوم والدفاع عنه ، فإنها مسؤولية وواجب يندرج تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ويختم القرآن هذا البيان بقوله : (واتّقوا الله لعلّكم تُرحَمون... ) انّ التقوى أساس العدل في التحكيم بين الناس ، ومَن لا يتق الله ، لايعدل ولايقسط في الحكم .. إنّ الآية تكشف عن أنّ الجور يبعد الناس عن الله سبحانه ، ويحرمهم من رحمته ، فإن هم قسطوا في الحكم وعدلوا بين الناس ، منطلقـين من وازع التقوى في النفوس ، اسـتحقوا رحمة الله ، وإن جاروا وظلموا ، ولم يعدلوا في الحكم ، فلا تقوى لهم ، ولن يستحقوا رحمة الله ..وهكذا يربط القرآن بين العدل الاجتماعي ، واستحقاق الرحمة الإلهية ، وبين الجور وعدم استحقاقها ، ليعي الإنسان قيمة العدل والإصلاح الاجتماعي في حياته ، وعلاقته مع الله سبحانه .* * *)يا أيّها الّذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ) .جاء في سبب نزول هذه الآية انّها : «نزلت في ثابت بن قيس بن شماس بعد أن عيّر رجلاً بأمِّه ، إذ كان يعيّر بها في الجاهلية ، فحجّل الرجل ونكس رأسه» (17) .(ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ) .جاء في سبب النزول انّها : «نزلت في إمرأتين من أزواج الرسول سخرتا من أمّ سلمة ... » (18).وجاء في سبب نزول قوله تعالى : (ولا تنابزوا بالألقاب ) (19) .«أنّ أبا جبيرة بن الضحّاك قال : فينا نزلت ، في بني سلمة ، قدم رسول الله المدينة ، وليس فينا رجل إلاّ له إسمان ، إذا دعاهم أحدهم باسم من تلك الأسماء ، قالوا : يا رسول الله انّه يكره هذا الاسم .(يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) .. جاء في سبب نزول هذه الآية : «قال مقاتل لمّا كان يوم فتح مكّة ، أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلالاً حتى أذّن على ظهر الكعبة ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم يرَ هذا اليوم ، وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذِّناً ، وقال سهيل بن عمرو إن يرد الله شيئاً بغيره . وقال أبو سفيان : إنِّي لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربّ السماء . فأتى جبريل (عليه السلام) النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عمّا قالوا فأقرّوا ، فأنزل الله هذه الآية»(20) .وإذا ثبت أنّ هذا هو سبب النزول ، فيكون هو الدليل على أنّ هذه الآية مكية كما ذهب البعض من الرواة والمفسِّرين ، ولكنّها نزلت في العهد المدني .قال الطبرسي في مجمع البيان : «سورة الحجرات مدنية ، وعن ابن عباس إلاّ آية ، أي إلاّ آية واحدة مكية ، وهي قوله تعالى : (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى... ) .وفي هذا المقطع من الآيات يثبِّت القرآن للإنسان أسمى مراتب الأخلاق العملية والتربوية ، وأصول التعامل الاجتماعي .. ومن خلال الممارسة الأخلاقية والتعامل الاجتماعي السليم تبرز إنسانية الإنسان ، ويتجسّد محتواه الذاتي ، إنّ هذه الآية تتحدّث عن وضع اجتماعي سيِّئ ، كان الناس فيه يتنابزون بالألقاب ، فنهاهم القرآن عن ذلك ، وحرّم تلك الأخلاق السّيئة ..إنّ هذه الآية بمجموع فقراتها تثبِّت الاُسس والمبادئ التي تحقق كرامة الانسان ، وتحمي شخصيته وسمعته ، وتصون إنسانيته من النيل والتجريح والاسقاط .. إنّها تنهى عن السخرية وأن يعيب البعض البعض الآخر ، ويرميه بعبارات الاحتقار والاستخفاف بشخصيته ; وكما تنهى عن الغيبة وتحريم تلك التجاوزات على شخصية الإنسان ، فهي تنهى عن الظن السيِّئ الشرِّير بالآخرين ، والنظر إليهم بريبة وتوجّس ، ووضعهم موضع الاتهام وفقدان الثقة ، نتيجة لدافع الشك والحالات النفسية المرضية عند المتّهم للناس .. فالناس ضحايا وساوسـه وحالاته النفسية المرضية ، وكذلك أصدقاؤه وأفراد أسرته وشركاؤه في العمل وجيرانه ، والناس من حوله .. فهم جميعاً عنده موضع الشك والتهمة والريبة .. امّا التقييم الموضوعي للناس .. وتشخيص السيِّئ والشرِّير ، والتعامل معه بحذر وعدم ثقة ، فليس مشمولاً بهذه الآية ..إنّ حسن الظن بالآخرين أساس نفسي للتعامل بثقة وطمأنينة مع الناس ، فالانسان بريء في الاسلام ، ولا يتهم إلاّ بدليل مثبت .. ورد عن رسول الله قوله : «إحمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير» (21) .وورد عن الإمام علي: «ضَعْ أمر أخيك على أحسنه ، حتى يأتيك ما يغلبك منه ، ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً ، وأنت تجد لها في الخير محملاً» (22) .* * *)ولا تجسّسوا ) : ولكي تحفظ حرمة الإنسان في غيبته نهى القرآن عن الغيبة .. ولكي تحفظ حرمته في سره نهى عن التجسّس عليه .. والتجسّس هنا هو متابعة عيوب الإنسان المستترة لفضحه ، وإسقاط شخصيته ، وينهى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تلك الممارسة البشعة ضدّ كرامة الإنسان .. ينهى عنها ، ويعتبر فاعلها منافقاً ، أسلم بلسانه ، ولم يسلم بقلبه ..قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : «يا معشر مَن أسلم بلسانه ، ولم يسلم بقلبه ، لا تتّبعوا عثرات المسلمين، فإنّه مَن تتبّع عثرات المسلمين تتبّع الله عثرته، ومَن تتبّع الله عثرته يفضحه»(23) .وجاء عن الرسـول (صلى الله عليه وآله وسلم) قولـه : «إيّاكم والظنّ ، فانّ الظنّ أكذب الحـديث ، ولا تجسّسوا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا ولا تنابزوا ، وكونوا عباد الله إخواناً» .* * *)يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عندَ الله أتقاكم ) .وفي هذه الآية يقرأ الإنسان أعظم مبادئ حقوقه الإنسانية ، وأرقى القوانين في صيانتها واثباتها .. إنّ هذه الآية تقرِّر أنّ الناس يولدون متساوين في الانسانية ، فهم أبناء آدم وحواء ..وهكذا تواصل نظام الخلق ، ويجب أن يكون الناس سواء في الانسانية ، وفي الحقوق والواجبات ، وأن لا يفضّل أحد على أحد بسبب النسب أو العنصر واللون أو المال أو السـلطة .. إنّما الأكرم والأفضل هو الأتقى .. والأتقى هو الإنسان المستقيم في سلوكه وانسانيته ، الذي يخشى الله في السرّ والعلن ، ولا يرتكب الجريمة والمعاصي ، وهو الذي التزم منهج الحق والهدى ..إنّ هذا التعدّد في الألوان واللغات في البشر ، هو آية من آيات الله سبحانه ، وليس سبباً للفرقة العنصرية أو الطبقية والشعور بالتفوق والاستعلاء .. ذلك ما توضِّحه الآية الكريمة .. (ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) . الروم/ 22 .إنّ هذا الاختلاف ، وتلك الفوارق في اللون والنسب واللغة هي للتعارف .. فلو كنتم لوناً واحداً ، وشكلاً واحداً ، ولغة واحدة وتماثلتم كما تتماثل قطع النقود ، لما تميّز بعضكم عن بعض . إنّ هذا التمييز هو الذي يسهِّل عملية التعارف بينكم ، فيُعرف هذا من ذاك .. إنّ هذا التفاوت في الأنسـاب والأشكال واللغات ليس للتفاخر ، ولتعالي البعض على بعض ، بل ليُعرف كل منكم بنسبه وأصله .الظاهرة الأعرابية :(قالت الأعراب آمنّا قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إنّ الله غفور رحيم ) .وفي هذه الآية يتحدّث القرآن عن الأعراب والظاهرة الأعرابية ، كما تحدّث عنها في سورة الفتح لأهميتها في سلوك المجتمع ، ولتكررّها كظاهرة اجتماعية ، وليست هي حالة بدوية ، كما يتصوّرها البعض ، وإن كان الأعراب هم سكان البوادي ، إلاّ أنّ الحديث هنا هو في الأعرابية كظاهرة سلوكية .. ظاهرة النفاق والجهل والنفعية والانتهازية .وينبغي أن نوضِّح أنّ من الأعراب ، من سكان البوادي مَن لا ينطبق عليه هذا الوصف .. وانّهم مؤمنون صادقون في إيمانهم ، قال تعالى مشخِّصاً صنفين من الأعراب : (ومِنَ الأعراب مَن يتّخذ ما ينفق مغرماً ، ويتربّص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتّخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنّها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إنّ الله غفور رحيم) التوبة / 98 و 99 .ثم تحدّث عن الصنف الممثل للظاهرة الأعرابية المريضة بقوله : (وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لاتعلمهم نحن نعلمهم سنُعذِّبهم مرّتين ثم يردّون إلى عذاب عظيم ) التوبة / 101 .(الأعراب أشدّ كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ) التوبة / 97 .أنّ القرآن يكذِّب ادعاء الأعراب بأنهم آمنوا ، ويفرِّق بين اسلامهم والايمان الحق .. انّهم أسلموا ، أي خضعوا للأمر الواقع ، خوفاً وطمعاً ، ولم يستقر الإيمان في نفوسهم ، ولم يتفاعل مع عقولهم ووجدانهم، لذا خاطبهم بقوله: (ولكن قولوا أسلمنا ) .. قولوا خضعنا خوفاً وطمعاً .. لقد أظهرتم كلمة الإسلام ، الشهادتين ، بألسنتكم ، ولم تؤمن قلوبكم .. أيّها الأعراب في إسلامهم الظاهري القلق إن تطيعوا الله ورسوله لا ينقصكم من الثواب شيئاً بسبب ما فعلتم ، فانّ الله غفور رحيم ، يغفر لكم ويتجاوز عن سيِّئاتكم
(إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ... ) .وبعد أن وضّح القرآن الإسلام الأعرابي، وفرّق بينه وبين الإيمان الحق ، وأوضح أنّ أولئك الأعراب ليسوا مؤمنين ، تحدّث عن الإيمان الحق ، ومَن هو المؤمن فقال : (إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) .الإيمان كما يعرِّفه الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ، هو: «ما وقر في القلب وصدّقه العمل» .الإيمان الصادق هو الإيمان الذي لا يتزعزع في الشدّة والرخاء ، في المحنة والبلاء ، في اليسر والعسر ..وحين يسـتقرّ الإيمان في النفس ، ويرتبط العبد بربِّه ارتباط صدق وإخلاص ، فلا يرى في هذا الوجود غير الحق سبحانه ، عندئذ يتحوّل هذا الإيمان إلى بذل وعطاء وتضحية في سبيل الله .. إنّ أبرز مصاديق الإيمان أن يجاهد المرأ بنفسه وماله ، وليس أداء الصلاة أو الحج والصوم فحسـب ، فانّ كل ذلك سهل المؤونة ، لا يكشف عن حقيقـة الاخلاص لله ، والفناء في ذات الله ، والايمان بما عند الله .ويذهب المفسِّرون إلى أنّ أولئك الأعراب الذين كذّب الله إيمانهم ، قد جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن سمعوا بنزول هذه الآية يحلفون له انّهم صادقون بدينهم ، فأنزل الله سبحانه : (قُل أتُعلِّمون الله بدينكم ... ) .قل لهم يا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أتُعلِّمون الله بحقيقة دينكم الذي تنطوي عليه نفوسكم .. إنّه أعلم منكم بأنفسكم .. والآية مصوغة بأسلوب الاستفهام الاستنكاري الذي فيه توبيخ واستنكار .. فالقرآن يستنكر جهلهم بعلم الله إذ يحاولون أن يخادعوا الله والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويتظاهروا بالإيمان ، ويقسموا على ذلك ، وكأن الله لا يعلم الحقيقة ، وهو يعلم ما في السماوات وما في الأرض .. وهو بكل شيء عليم .. وبهذا الموقف استحقّوا التوبيخ ، وان يخاطبوا بأسلوب السائل المستنكر :(يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليَّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ... ) .ويترك القرآن الحديث المباشر مع الأعراب ، فيخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مستنكراً موقفهم منه ، موقف الجاهل بالرسالة والنبوّة .. إنّهم يمنّون على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إسلامهم .. إنّ الفضل والمنّ لله سبحانه ، فهو الذي هداهم للإيمان ، ودلّهم على الهدى والاستقامة إن كانوا صادقين بإيمانهم .. قل لهم يا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لا تمنّوا عليَّ إسلامكم الظاهري الذي لم يستقرّ في نفوسكم ، بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان الحق ، وبيّن لكم مناهجه ، ليعرفوا كيف يتعاملون معك ، ومع انتمائهم للاسلام ، إن هم صدقوا في دينهم .. أيّها الأعراب إن الله عالم غيب السماوات والأرض ، ولا يخفى عليه شيء ممّا تحويه نفوسكم من إيمان ونفاق ، وعمل صادق أو مخادع .. .
No comments:
Post a Comment